هناك
ضرورة ملحة تحتم علينا تمييز الأعمال المدنية عن الأعمال التجارية خاصة ان الاعمال
التجارية يحكمها قواعد قانونية خاصة بها حيث ان القانون التجاري هو القانون الذي
يطبق على التصرفات التجارية و ينظم حرفة التجارة فكيف نفرق التصرفات المدنية عن
التصرفات التجارية؟ ان هذا التمييز بالغ الأهمية من حيث الاختصاص و من حيث
قواعد الاثبات التي يجب تطبيقها على النزاع وسوف نتناول هذه الأهمية بالتفصيل في
مقال لا حق.
و لكن ترتب على ذلك ان ثار التساؤل عن معيار
يصلح للتمييز بين الأعمال التجارية و الأعمال المدنية و قد استقر الفقه القانوني
في هذا الشأن على معايير أربعة يمكن
الاهتداء بهم معاً لتمييز الأعمال التجارية عن المدنية و نتطرق إليهم على النحو
الآتي:
المعيار الأول: معيار المضاربة أو قصد
الربح.
لجأ
الفقه و القضاء إلى الأخذ بفكرة المضاربة للتمييز بين العمل المدني و العمل
التجاري استناداً إلى ان المضاربة هي من أهم خصائص التجارة، فاعتبروا كل تصرف هدفه
تحقيق الربح و السعي إليه عملاً تجارياً.
و
الواقع أن القضاء يستعمل غالباً هذا المعيار في حكمه على طبيعة العمل محل النزاع،
و رغم ان معيار المضاربة يمتد نطاقه إلى أكبر قدر من الأعمال التجارية إلا ان هذا
المعيار لا يخلو من عيوب ووجه بعض الفقهاء له النقد حيث ان هذا المعيار يُدخل
أعمالاً مدنية كثيرة في دائرة الأعمال التجارية ، كالمهن الحرة مثل المهندسين و
الأطباء و المحامين الذين يسعون من وراء أعمالهم إلى الربح . كما ان هذا المعيار
لا يمكن تطبيقه على بعض الحالات الاستثنائية كما هو الشأن بالنسبة للتاجر الذي
يقصد عدم الربح في سبيل منافسه غيره من التجار ، أو لجذب العملاء ،رغم ان أعمال
التاجر في هذا الخصوص تعتبر تجارية .
و
قد أخذت بعض التشريعات العربية بهذا المعيار منها قانون التجارة الكويتي رقم 68
لسنة 1980 حيث نصت المادة 3 من القانون على :
"الأعمال التجارية هي
الأعمال التي يقوم بها الشخص بقصد المضاربة ، ولو كان غير تاجر."
كما ان المقرر في قضاء محكمة التمييز الكويتية:
"اذ كانت المادة الثالثة من قانون
التجارة تنص على أن الأعمال التجارية هي الأعمال التي يقوم بها الشخص بقصد
المضاربة ولو كان غير تاجر وكان استخلاص تجارية العمل وعلى ما جرى به قضاء هذه
المحكمة هو مما تستقل به محكمة الموضوع دون رقابة عليها ما دام استخلاصها سائغا
وله اصل ثابت بالأوراق وكان الحكم المطعون فيه قد اقام قضاءه في هذا الخصوص على ما
استخلصه من مستندات الطاعنين من أنها قدما لتنفيذ أعمال المقاولة اعدادا كثيفة من
العمال وهو ما يدل على انهما احترفا هذا التوريد وأنه كان نشاطهما الرئيسي في
عملية المقاولة وهي أسباب سائغة تؤدى إلى ما انتهى اليه من تجارية العمل لا مخالفة
فيها للثابت بالأوراق أو للقانون."
(طعن بالتمييز رقم 10 لسنة 1995
تجاري – جلسة 3/11/1996 )
المعيار الثاني : معيار التداول.
معيار التداول يقصد به تداول
الثروات و يصبغ هذا المعيار الصفة التجارية على الأعمال التي تقع على السلع و
البضائع و النقود و الأسهم وغير ذلك من المنقولات في فترة تداولها من بين يد
المنتج الأول إلى يد المستهلك . و معنى ذلك أن الصفة التجارية تصبغ على جميع أعمال
تداول السلع و الوساطة فيها طالما أنها في حركة تداول أما الأعمال تتناولها السلع
و هي في حالة ركود مثل عمل صناعة السلعة أو المستهلك الأخير الذي حاز السلعة فهي
أعمال مدنية.
و تطبيقاً لمعيار التداول يعتبر
الشراء بقصد البيع و ما يتصل به من عمليات كالسمسرة أو الوكالة بالعمولة أو
الإيداع بأحد المخازن من الأعمال التجارية نظراً لأنها تجعل الثروات في حالة حركة
و تداول كذلك فإن العمليات البنوك تعتبر عملاً تجارياً لأنها تعد في جوهرها
تداولاً للنقود.
و لكن هذا المعيار يُبعد كل ما
يتعلق بالعقارات لأنها ليست محلاً للتداول من مكان إلى آخر و إنما يتم التصرف فيها
وفقاً لإجراءات معينة وحتى لو قصد من التصرف فيها تحقيق الربح و المضاربة فلا
ارتباط بين فكرة التداول وتحقيق الربح في نظر أنصار هذا المعيار.
و يمكن توجيه
النقد إلى هذا المعيار بأنه لا يفسر لنا بعض الاعمال التي تعتبر في جوهرها وساطة
في تداول الثروات دون أن تعتبر أعمالاً تجارية ، كالأعمال التي تقوم بها الجمعيات
التعاونية التي لا تهدف إلى ربح حيث ان سلع هذه الجمعيات تكون في تداول مستمر و
لكن الجمعية لا تهدف من هذا التداول إلى أي ربح ، كما لا يفسر لنا هذا المعيار
اعتبار بعض الاعمال التجارية رغم عدم خضوعها لمعيار التداول مثل المضاربة على
العقارات .
المعيار الثالث:
معيار المقاولة.
يهدف هذا المعيار إلى اعتبار أحكام القانون التجاري تقوم
على أساس المشروع ذاته و ليس على أساس العمل التجاري، فنادى أنصار هذا المشروع
بوجوب اتخاذ المشروع و احتراف الشخص للعمل أي تكرراه لهذا العمل. وهناك اتجاه كبير
في الفقه يؤيد هذا المعيار للتمييز بين التاجر و الحرفي. فالأعمال التجارية هي
التي يباشرها التاجر و المتعلقة بمشروعه التجاري.
و يتميز معيار المقاولة بوجود مظاهر خارجية وواقعية تشير
إلى قيام شخص باعمال تجارية بصفة دائمة و ليس على نحو عرضي وفكرة المحل التجاري
تعد تطبيقاً لهذا المعيار.
و من المقرر في
قضاء محكمة النقض المصرية :
" يشترط
لإسباغ الصفة التجارية على عمل صاحب الحرفة أن يستخدم عمالاً أو آلاتٍ ،
فيضارب على عمل هؤلاء العمال أو إنتاج تلك الآلات ، أما إذا اقتصر الأمر على
مباشرة حرفته بمفرده ، انتفت صفة المضاربة وأصبح من الحرفيين ، ولا يعتبر أنه قد
أنشأ متجراً بالمكان المؤجر ، إذ تقوم صلته بعملائه في هذه الحالة على ثقتهم في
شخصه وخبرته ، بخلاف المحل التجاري الذى يتردد عليه العملاء لثقتهم فيه كمنشأة
مستقلة عن شخص مالكها ."
(طعن بالنقض رقم 15013 لسنة 89 ق – جلسة 20/2/2021)
رغم ان معيار المقاولة يجد سنداً من القانون و الواقع
حيث تأخذ بعض التشريعات بفكرة المقاولة في كثير من الحالات كما هو الحال في
مقاولات الصناعة و النقل و التوريد في التشريع المصري إلا أن هذا لا ينفي ان
المشرع المصري يتخذ من العمل التجاري معياراً لتطبيق أحكام القانون التجاري، كما هو الحال في عمليات
الشراء بقصد البيع أو التأجير و تأسيس الشركات التجارية.
و يمكن توجيه النقد إلى معيار المقاولة في أنه أحياناً
يبدو واسعاً فضفاضاً في مجال تطبيقه كما أن من شأن هذا المعيار اعتبار أعمال بعض
المشروعات التجارية رغم الاعتراف بها كأعمال مدنية كالمشروعات الفنية. كما ان هذا
المعيار يشوبه قصور شديد حيث ان هناك بعض
الأعمال التجارية التي لا يشترط في مباشرتها أن تتخذ شكل المشروع مثل الشراء بقصد
البيع.
المعيار
الرابع: معيار الحرفة التجارية.
و يقتضي ذلك المعيار اعتبار العمل تجارياً إذا تم من
خلال الحرفة التجارية للشخص، و على العكس يعد العمل مدنياً إذا تعلق بحرفة الشخص
المدنية. و تطبيقاً لذلك إذا قام التاجر بعمل لا يتعلق بحرفته التجارية كان عملاً
مدنياً.
و قد استثنى انصار هذا المعيار الأعمال المنفردة المنصوص
على تجاريتها إذا قام بها غير تاجر لاعتبارها تجارية سواء بحسب شكلها كالكمبيالة
وشركات المساهمة و التوصية بنوعيها و التضامن و المسئولية المحدودة أو بحسب
طبيعتها كعمليات البنوك و السمسرة أو بحسب سببها كالأعمال التي تتم بقصد المضاربة
كالبيع التجاري .
و إن هذا المعيار لا يضيف جديداً لما استقر عليه فقه
القانون التجاري من تقسيم للأعمال التجارية ، ذلك أن معيار الحرفة التجارية ليس
إلا الأساس الذي تقوم عليه نظرية الاعمال التجارية بالتبعية كما ان الاستثناءات
التي اعترف بها ليست الأعمال التجارية المنفردة.
في الختام: لا مراء من انه يستحيل علينا الاعتماد على
معيار واحد لتمييز الاعمال التجارية عن الاعمال المدنية فالعمل التجاري متنوع و لا
يمكن حصر حالاته و ان التشريعات القانونية ليست مؤسسة على معيار واحد ، و إذا كانت
المعايير السابقة عجزت عن وضع معيار دقيق لتمييز الاعمال التجارية إلا انه يمكن
الاهتداء بها معاً في هذا الشأن.
تعليقات
إرسال تعليق